رأيك في المدونات ؟

الأربعاء، 2 نوفمبر 2016

التعليم الدولي

التعليم الدولي.. وتهديد الهوية

قبل 18 ساعة
مما لا شك فيه أن التعليم هو أحد أهم عوامل الحفاظ على هوية المجتمعات، فمن خلال التعليم يتشرب النشء الثقافة والقيم والأفكار التي تشكل معالم شخصياتهم وتوجه انتماءاتهم.

قبل عقدين من الزمان بدأت المدارس الدولية تظهر في مجتمعاتنا العربية، بدأت ككيان غريب يتلمس طريقه، ثم ما لبست أن انتشرت وجذبت إليها أبناء الطبقة الثرية لما تقدمه من أساليب حديثة في التدريس وخدمات تعليمية وأنشطة يعجز التعليم المحلى عن توفيرها.
لقد خلقت هذه المدارس مشكلة اجتماعية لم نعهدها من قبل، حيث قسمت أبناء الجيل الواحد إلى نسيج غير متجانس، لكل فئة منهم خلفية مختلفة.
سأتحدث تحديدًا عن مصر، لن أتحدث عن تقاعس الدولة عن تطوير التعليم الذي يعد أحد ساقي العدالة الاجتماعية، ولا عن فشلها في توفير مناهج متطورة ومناخ تعليمي قادر على المنافسة، ولكنى أود أن أشير إلى الخطر الداهم الذي يكمن في مناهج التعليم الدولي.

أول هذه المخاطر هو تهميش اللغة العربية، فالأمر لا يقتصر على دراسة جميع المواد بالغة الأجنبية، ولكن أصبحت اللغة العربية مقزمة، مهمشة، لا تحظى بأي اهتمام حيث يكفي الحصول على الحد الأدنى من الدرجات للنجاح فيها. بل وأصبح الضعف في اللغة العربية أحد دواعي فخر البعض مع الأسف.


في كثير من المدارس الدولية يحظر على معلمي اللغات الأجنبية كالفرنسية والألمانية التحدث في الفصل بالغة العربية. وإن كان لا بد من اللجوء إلى لغة أخرى لشرح المادة، فلتكن الإنجليزية، ومخالفة هذه التعليمات يعد جريمة أول من يستنكرها هم التلاميذ أنفسهم.


هذا وبالإضافة إلى الرسائل المباشرة والغير مباشرة التي تتسرب إلى عقول ووجدان التلاميذ من خلال المناهج المختلفة: فعندما تتحول إسرائيل إلى المنتصر في حرب أكتوبر في مادة التاريخ. وعندما تتحول كل المدن التي يتم الاستشهاد بها في الدروس المختلفة إلى نيويورك وبوسطن ولندن وباريس، وعندما تتحول العملات في مسائل الرياضيات إلى الدولار والسنت والبنس، وعندما تتحول الأعياد إلى الكريسماس والهالوين وعيد الشكر، ندرك أننا أمام مشروع لتغريب جيل وتفريغه من هويته وأصله وانتمائه.


لقد خلقت هذه المدارس مشكلة اجتماعية لم نعهدها من قبل، حيث قسمت أبناء الجيل الواحد إلى نسيج غير متجانس، لكل فئة منهم خلفية مختلفة. وأخرجت شبابًا لا يشعر إلا بالغربة في بلده، فانتماؤه الحقيقي هناك في الطرف الآخر من الكرة الأرضية، وبالتالي يصبح جل حلمه هو السفر والهجرة.


كيف يتثنى لمجتمع بهذا الشكل الغير متجانس، الغير متوحد، الغير مجتمع على فكرة واحدة وعلى هدف واحد أن يعمل على تحقيق ذاته وعلى أن تكون له بصمة تميزه وسط الأمم.


أنا لا ألقى باللوم هنا على أولياء الأمور الذين يبحثون لأولادهم عن تعليم جيد يتسلحون به للحصول على فرص أفضل في الحياة العملية.


ولكن هل ينزلق أولياء الأمور إلى نفس ذلك الفخ؟ هل يستسلمون إلى تيار التغريب الجارف؟ أم يحاولون تعويض أبنائهم بالإرشاد والتوجيه وضبط البوصلة بين الحين والآخر؟

وما زالت الهوة تتسع وتتسع .

الاثنين، 31 أكتوبر 2016

العنف الديني

العنف الديني

قبل 3 ساعات
لقد أصبح "العنف الديني" شاغل الناس وديدن الخطابات الرسميّة؛ وملهاة الإذاعات ومأساة الشعوب، وذريعة السلاطين والمستبدين لترسيخ سلطانهم. وتحوّل إلى كليشيه لا يملّ من تكرار نفسه في كلّ حين. تقول الدعوى إنّ البشر يمارسون العنف لأسباب متعددة؛ سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، ولكنّ عنفاً من هذا النوع يبقى عنفاً عقلانيّاً مضبوطاً ومحسوباً ودنيويّ الدوافع. أما حين ينبع العنف من دافع دينيّ، فإنّه يتحوّل إلى عنف أعمى، كيف لا وصاحبه يرى أنّه يحوز الحقيقة والصواب المطلق وأنّ الآخرين هم كفرة يستحقّون الموت والعقاب!؟


إذا كان الدين هو ما يقبل البشر أن يموتوا لأجله وأن يكون لموتهم في سبيله معنى، فإنّ الدولة القوميّة قد احتكرت حقّ مواطنيها في الموت في سبيل فكرة أو مبدأ أعلى
لقد وُلدت هذه الدعوى، والتي يسمّيها وليام كافنو "أسطورة العنف الديني" في الفضاء الأوروبي في أعقاب "الحروب الدينية" في القرنين السادس والسابع عشر. تمثّل هذه الأسطورة الأرضية التي تقوم عليها العلمانيّة السياسيّة، والتي قدّمت نفسها إبان ذلك باعتبارها دعوة لتجاوز الخلافات المذهبيّة والدينيّة والتسامح والسلام وتنظيم الولاء السياسي تحت سقف الدولة القوميّة، وهو ما بدا، كما تُصوّر السرديّة العلمانية، المخرج الوحيد من جحيم "الحروب الدينية". ورغم كثرة النقود الموجّهة إلى هذه "الأسطورة" فإنّ قوتها كامنة في رواج روايتها التاريخيّة وفرضها لروايتها عما يجري في الحاضر.

أدّت الأسطورة التاريخية، بالعموم، دوراً وظيفيّاً مهمّاً في تفسير العالم، فالأسطورة قصّة تفسيريّة للكون أو لأحد تمظهرات الوجود البشريّ، وهي بطبيعة الحال تمتلك سلطتها من طابعها القصصي ومن قدراتها التفسيريّة التي لا تنضب، فالأسطورة قادرة دوماً تفسير الوقائع بالعودة إلى عناصر الأسطورة، التي تتسم بقدر ما من المرونة وتتيح هوامش معقولة لتسمح لنفسها بالانثناء أمام مستجدات الواقع دون أن تنكسر. إلا أنّ "أسطورة العنف الديني" أقرب ما تكون إلى الأيدولوجيا بتعريفها الكلاسيكيّ؛ أي إنّها نوع من تزييف الواقع، والعمى عن حقائقه لحساب القصّة السهلة والرابحة.

على أنّ أسطورة العنف الديني آخذة في الرواج في العالم العربي بصورة أكثر اختزالاً وتشوّهاً وتسييساً، فحتى العنف الديني (إن صحّ استعمال هذا التعبير)، أصبح محصوراً في توصيف الجهاديّة السنّية بأطيافها، بل وفي وسم ما كان يُنظر إليه سابقاً باعتباره إسلاماً معتدلاً (أُشير إلى وضع الإخوان المسلمين في قوائم الإرهاب السعوديّة في مارس 2014). في حين استثنت التصريحات القلقة للأمم المتحدة ولدعاة حقوق الإنسان فصائل الحشد الشعبي ومليشيات حزب الله ومرتزقة إيران من فظاعات العنف الديني. والأنكى أن قطيعاً من المثقّفين قد انساق وراء ترديد هذه الدعاية وإقامة المؤتمرات للكشف عن فظاعة العنف الديني وتسويق إسلام أكثر اعتدالاً وطاعة، دون أن يكلّفوا أنفسهم مؤونة الفحص النقدي لمقولة "العنف الديني"، ودون أن يكترثوا للسياق السياسي الذي تدور في فلكه هذه المقولة اليوم.

وإذ تتوخّى هذه التدوينة/المقالة الكشف عن هشاشة هذه الأسطورة، وضرورة تجاوزها إذا ما أردنا فهم اللحظة التاريخيّة فهماً حقيقيّاً، فإنها تعترف بأنّ هذه الأسطورة/الأيدولوجية لا تستمدّ قوتها من البراهين النظريّة بقدر ما تستمدّها من وظيفتها السياسيّة المدعومة بأجهزة إعلاميّة ضخمة وصور نمطيّة لا تفتأ عن التوالد والتكرار.

ما هو الدين؟
أوّل النقودات المتعلّقة بأسطورة العنف الديني، هو تعريف الدين نفسه، فأسطورة العنف الديني تقوم على إمكانيّة التمييز والفصل النظري، قبل العملي، بين الدين وسائر أنشطة الحياة الإنسانيّة (الدنيوية أو العلمانية) الآن ودوماً. ومن ثمّ تقول الأسطورة بأنّ الدين كان مسؤولاً عن الحروب الكبرى في التاريخ البشري: الحروب الدينية الأوروبيّة، محاكم التفتيش، الحروب الصليبيّة، الفتوحات الإسلاميّة وغيرها من مظاهر "العنف الديني".

إلا أنّ "الدين" في حقيقة الأمر اختراع حديثٌ؛ أعني بذلك أنّ تحديد ما هو "الدين" بالاستقلال عن سائر أنشطة الوجود الأخرى هو اختراع حديث لم يوجد قبل القرن السابع عشر، هذا ما يُشير إلى جورج بالانديه في "الأنثروبولوجيا السياسيّة" وغيره. فلم يكن الدافع الديني، فيما سبق، مستقلّاً عن بقيّة الدوافع الإنسانيّة، ولم يكن بالإمكان التمييز الحاسم بين ما هو ديني وما هو دنيويّ، فالدين، ما قبل الحداثة، أقرب إلى أن يكون نمطاً من العيش وطريقة في الوجود، ومن ثمّ فإنّه متغلغل في لحم سائر الأنشطة الإنسانيّة، ولا يمكن فصله عنها.

ولذا، فإننا لا يمكن أن نفرّق في الشواهد التاريخيّة بين عنف دينيّ وآخر دنيويّ، أو حتى أن نقول بأنّ السلطة قد وظفت الدين لخدمة مصالحها، فهذه عبارات لا معنى لها في تلك الحقبة، وتكرارها ليس إلا وقوعاً في المفارقة التاريخية (أي قياس الماضي على حكم الحاضر). إلا أنّ تفحّص حالات "العنف الديني" الكبرى في التاريخ تكشف عن وجود عشرات العوامل السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة المتداخلة والمتشابكة مع العامل الديني، والتي تناقضه أحياناً. فالنصف الثاني من الحروب الدينية الأوروبيّة كانت صراعاً بين الهابسبورغ الكاثوليك والبوربون الكاثوليك أيضاً، وقد تحالف الفرنسيون الكاثوليك في بدايات تلك الحروب مع السويد اللوثريّة. وأظنّ أن كارين آرمسترونغ في كتابها "حقول الدم: الدين وتاريخ العنف" كانت أفضل من تتبّع حالات العنف الديني عبر التاريخ وفككتها كاشفة عن هشاشة السرديّة التاريخية لأسطورة العنف الديني.

عزل الدافع الدين وشيطنته
تتجاهل أسطورة العنف الديني وجود دوافع سياسية واقتصاديّة وهويّاتيّة وراء حوادث العنف الديني الحديث، ولعلّ حالة داعش هي النموذج الأبرز لهذا التجاهل المستمرّ والمريب. لقد خسرت القاعدة رصيدها وجاذبيتها الأيدولوجية في بدايات الربيع العربي، حين شعرت شعوب المنطقة بإمكانيّة بناء مستقبل حرّ وكريم لها، إلا أنّ موجات الثورة المضادة أجهضت أحلامنا جميعاً وأعادت فرض الاستبداد والسلطويّة تحت مرأى العالم، بحجّة الخوف من صعود الإسلاميين.

يترافق هذا مع بؤس مشاريع الدول العربيّة التنمويّة والتحديثيّة وشؤمها الاقتصادي وفسادها المؤسساتي وتبعيّتها الاقتصادية والسياسيّة المخزية. وفوق ذلك حرمان المسلم البسيط من حقّه الطبيعي في أن يشعر بأنّ الدولة ليست عدوّة لتاريخه وثقافته وقيمة. مع ذلك، وفوقه، يضحك بعض المثقّفون عند الحديث عن "مظلوميّة سنّية" في العراق وسوريا، ويصبح الحديث عن الطائفيّة السياسيّة التي يمارسها النظام السوري والعراقي (الإيرانيان) حديثاً طائفيّاً.

لم يحتج نمور التاميل (الحركة الانفصالية السيرلانكية) إلى فتاوى ابن تيميّة لتنفيذ 260 عمليّة انتحاريّة، مبتكرين بذلك هذا التكتيك من العنف الحديث. فالسياق السياسي والسيسيولوجي أكثر أهمّية في فهم هذه الظواهر من السياق اللاهوتيّ. وربما لو لم يكن ابن تيميّة قد ولد في القرن في القرن السابع الهجري، لولد الآن! هنا تكمن إحدى أبرز مثالب هذه الأسطورة/الأيدولوجية، إذ ينبني على العمى عن رؤية البواعث الحقيقيّة لتفجّر العنف الديني في المنطقة، سجالات رديئة عن ضرورة نقد التراث وإصلاح الخطاب الديني، وتطهير النشء من مخلّفات التطرّف الفكري.

لست أتحدّث هنا عن صوابيّة هذه الاستراتيجيات بحدّ ذاتها أو خطلها، ولكنني أتحدّث عن سذاجة تصوير العنف الديني باعتباره ابناً للخطاب الديني والتراثي الكلاسيكي، أو تصوير سيكولوجيا العنف الديني باعتبارها شبقاً ساعياً إلى الظفر بالحور العين، فهذا إغفال خطر للطبيعة السيسيولوجية والسياق السياسي للظاهرة.

لقد مشهدت داعش العنف، صوّرته فظيعاً وفجّاً ودموياً، هذا مرعب لي شخصياً. ولكن، هل علينا أن ننسى ما يحدث داخل أقبية النظام السوري دون تصوير؟ هل براميل المتفجّرات أكثر رحمة من حدّ السكين؟ بل هل طائرات الدرونز أرحم؟ (هذا ما تعنيه مقولة الفيلسوف الفرنسي بودريارد بأنّ القاعدة لم تفعل سوى أنها أعلنت عن عنف العالم).

لقد بلغ عدد ضحايا داعش من المدنيين السوريين نحو 2450 منهم87 طفلاً في حين بلغ ضحايا القصف الروسي من المدنيين نحو 3800 بينهم 906 طفل، كما أزهقت طائرات التحالف حياة أكثر من 640 مدني بحسب إحصاءات المرصد السوري لحقوق الإنسان. هذا بالطبع دون الحديث عن ضحايا النظام السوري الذين يزيدون، بحكم المفقودين والمجهولين، عن أعلى الأرقام المسجّلة.

أليست هذه الازدواجيّة في إدانة العنف مدعاةً وحدها لخلق مائة وحش جديد مثل داعش بل وأكثر شراسة؟ ماذا تبقّى لهذه الأمم المغلوبة حتّى تخسره، ماذا تبقّى لها لتأمله؟

لقد أدركت الأنظمة هشاشة شرعيّتها السياسيّة في بدايات الربيع العربي، واستعاضت عن فقدان شرعيّتها بتضخيم العدوّ (الإرهابيّ، والوحشي والعنيف). على الناس إذاً أن تختار الوقوف إما مع الفوضى وجنون العنف الداعشي أو مع الاستبداد والسلطويّة. وقد قلت سابقاً أنّ الخيار الأوّل ينطوي على أمل أكبر بالخلاص من الثاني!

"الدين" الحديث، أم الأديان؟
لقد تراجع الدين بصورته الكلاسيكية في بواكير الحداثة، مع الحديث عن انهيار الميتافيزيقا وظهور العلم الحديث وغير ذلك، إلا أنّ الهالة الدينية قد انتقلت في الحقيقة من ميدان إلى آخر. على سبيل المثال، يُشير دوركهايم إلى أنّ الحقيقة العلميّة قد اتسمت مع مطالع الثورة العلميّة إلى الاتجاهات الوضعيّة بالموضوعيّة المطلقة والإلزاميّة المفروضة على الذات، ويُشير من ثمّ إلى أنّ هذه السمات هي ذاتها سمات الحقيقة الدينية. لقد ظهرت حالة فجّة مشابهة في أعقاب الثورة الفرنسيّة، عندما تمّ تتويج آلهة العقل على مذبح كاتدرائيّة نوتردام التي تحوّلت إلى معبد للفلسفة! إلا أنّ الوريث الأبرز للهالة الدينية، كانت الدولة القوميّة الحديثة، فإذا كان الدين هو ما يقبل البشر أن يموتوا لأجله وأن يكون لموتهم في سبيله معنى، فإنّ الدولة القوميّة قد احتكرت حقّ مواطنيها في الموت في سبيل فكرة أو مبدأ أعلى.

لقد وضع جورج كيمبال خمسة معايير أسماها بـ "العلامات التحذيريّة" إجابة على سؤال لماذا يتحوّل الدين إلى شرّ؟ وهي علامات تميّز الدين عن غيره من الظواهر البشريّة والعلامات الخمسة هي (ادّعاء الدين حيازة الحقيقة المطلقة، الطاعة العمياء، وتأسيس زمن مثالي، والاعتقاد بأنّ الغاية تبرر الوسيلة، والحرب المقدّسة). يرى وليام كافنو أنّ الدولة القوميّة تتسم بهذه العلامات الخمسة، فحين أعلن جورج بوش الحرب على الإرهاب، كان واضحاً في قوله بأنّ المعركة معركة بين الخير والشرّ، أليس هذا حيازة للحقيقة المطلقة؟ وأليست الجيوش الحديثة هي أعنف آلة قتل تقوم على الطاعة العمياء؟ وألا تصوّر الديمقراطيّة الليبرالية نفسها باعتبارها نهاية التاريخ وحلم الأحلام؟ ماذا عن قتل المدنيين في سبيل السلام أو حوادث التعذيب الممنهج في السجون الأمريكية وسجون حلفائها العرب؟

هل بعد هذا يبقى الفصل مقنعاً بين العنف الديني والعنف العلماني؟

المتديّنون بأطيافهم هم جزء من حركة التاريخ وسيرورة التغيّرات، وقد يميلون إلى العنف أو إلى الطاعة؛ وتاريخ الأديان حافل بنماذج مختلفة أشدّ الاختلاف في تفاعلها مع ذات الأحداث

الحقيقة أنّ هذا التمييز هو أحد مظاهر أيدولوجيا الدولة القوميّة، فالعنف الذي تقوم به الأنظمة السياسيّة، يبقى عنفاً مشروعاً ومقبولاً، وكلّ عنف تتمّ ممارسته خارج حدود اللعبة الدوليّة عنفٌ مُدان وإرهابيّ. ومن ثمّ لا تجد مفردة "العدالة"، كقيمة كونيّة، موقعها من الإعراب داخل عجمة السياسة.

لقد قيل الكثير عن عنف الدولة القوميّة، سواء ما جنته في الحربين العالميّتين، أو ما سبق ذلك، مقترناً بمشروعها الرأسمالي العملاق، من استعمار العالم الجديد والعالم الثالث. وهو عنف لم تشهد تاريخ الأديان مثله على الإطلاق.

وهذا الكلام كثيراً ما يُقال لردّ التهم عن الأديان، وليس هذا هدفي هنا، فالمتديّنون بأطيافهم هم جزء من حركة التاريخ وسيرورة التغيّرات، وقد يميلون إلى العنف أو إلى الطاعة؛ وتاريخ الأديان حافل بنماذج مختلفة أشدّ الاختلاف في تفاعلها مع ذات الأحداث؛ فالدين ليس جوهراً ثابتاً مفارقاً للتاريخ والثقافة، بل هو حركة داخلهما. ولكنّ المهم في هذه المرحلة، هو تجاوز ثنائيّة الفوضى أو الاستبداد. وشقّ طريق ثالث بينهما لا بدّ أن ينطلق من الوعي بزيف هذه الأسطورة.

دور أميركا في مساعدة الشعوب

هل ساعدت أميركا الشعوب يوماً؟

قبل 7 ساعات

يطغى انتمائي للثورة السورية على كل انتماء آخر، فهويتي كانت ومنذ اندلاع الثورة السورية في عام ألفين وأحد عشر هي معارضتي لنظام الأسد ووقوفي مع أي جهة تسعى لإسقاطه.. أشعر بأنني مسؤولة عن إخبار كل من أقابلهم عن حقيقة ما جرى ويجري في وطني سوريا.
 
في أميركا تجد من الناس تعاطفاً مع معاناة السوريين أمام الإجرام اليومي الذي يتعرضون له، لكن في ولايتي الديموقراطية "ميريلاند" يختلف الأمر فمعظم سكان هذه الولاية يفضلون الابتعاد عن هذه المنطقة ويوافقون باراك أوباما في رأيه حول هذه المسألة خاصة بعد حرب العراق الفاشلة التي يشعر الأميركيون اليساريون منهم خاصة بالعار من الجرائم التي ارتكبت خلالها. حديث طويل دار بيني وبين أستاذي في الجامعة حول سوريا..
 
الدول التي تريد الفوز في عالمنا المتوحش بإمكانها أن تعمل لتلتقي مصالحها مع مصالح الإمبراطورية الأميركية وإلا فإن عداء الدولة الأكثر نفوذاً في العالم سيكلف المعادين الكثير

أستاذي من أصول أفريقية، عاش في أحياء السود الفقيرة ولعق مرارة العيش في أميركا كأسود منذ ستينات القرن الماضي، حين كان نظام الفصل العنصري قد انتهى لتوه في أميركا وبقيت مخلفاته من مشاعر الكراهية والازدراء للسود الأميركيين الأمر الذي يدفع ثمنه السود حتى اليوم، هو يرى أن أميركا التي مازال يعاني فيها السود وهم مواطنيها من البطالة وسوء التعليم وسوء الخدمات لن تساعد بكل تأكيد أناس في غير قارات لا مصلحة للنظام الأميركي معهم..
 
قلت له أنني أرى أن غياب الدور الأميركي الذي حصل في عهد أوباما ترك المجال لشياطين أكثر إجراماً وأقل ديموقراطية للعبث في العالم، فرد أستاذي أن أميركا لم تتدخل في أي بلد وعاد هذا التدخل بالنفع على سكانه، والأمثلة كثيرة فمن الحرب على العراق التي فشلت وراح فيها أكثر من مليون بين قتلى وجرحى إلى حرب فيتنام التي راح ضحيتها ثلاثة ملايين قتيل، أميركا كذلك من رمى القنبلتين الذريتين على اليابان ودعم الطرفين العراقي والإيراني في الحرب بين صدام وإيران كل هذا جزء بسيط من حروب كثيرة خاضتها أميركا ولم تكن نتيجتها سوى القتل والموت على الطرفين دون أي مكتسبات.
 
أميركا بحسب أستاذي لم تخض أي حرب نافعة ولم تساعد حتى الدول القريبة منها كهاييتي التي تقع على الجانب الآخر من شواطئها وتتعرض للأعاصير والزلازل بشكل مستمر رغم ذلك لم تفكر أميركا بإعمارها وتطويرها فكيف لي أن أتأمل بأنها ستعمر سوريا وتخلصها من القتل؟ وجهة نظري واضحة فأنا لا أعتقد بأن أميركا دولة خيرية تقدم الخيرات للشعوب عبر الحروب عليها بل على العكس.
 
أفهم سبب حقد شعوب كثيرة تضررت من مغامرات الرؤساء الأميركيين في العالم، لكن مع هذا كله في حالة سوريا بإمكان أميركا هزيمة آلة القتل الروسية الشعواء التي لا أهداف لها إلا تحقيق انتصارات سياسية لبوتين ودولته الهاربة من مشاكلها إلى المغامرات في الشرق الأوسط، كل هذا كان بإمكانه أن يتم بقليل من الضغط وبأقل الخسائر من قبل الطرفين الأميركي والسوري.
 
ورغم حروب أميركا في العالم لا يسعني النظر لأميركا بسوداوية مطلقة فأميركا هي البلاد التي دعمت كوريا الجنوبية وأعمرتها لتصبح في مقدمة الدول اقتصادياً وهي التي وقفت إلى جانب الكويت ضد صدام حسين حين اقتحم الكويت دون أدنى وجه حق وحرق آبار نفطها وبدأ بالتنكيل بأبنائها، وهي التي استجابت لرغبة الشعب الليبي بإسقاط قوات معمر القذافي بغض النظر عن نتيجة هذا التدخل إلا أنه كان تلبية لرغبة الشعب الليبي.
 
إذا غاب العرب عن عون السوريين وغابت أميركا عن وقف مجازر روسيا بحقهم، على ماذا نعقد الأمل؟ وهل تقدر فصائل المقاومة السورية على تحرير سوريا لوحدها؟

أميركا ليست مؤسسة خيرية بل إمبراطورية كبيرة يهمها قبل كل شيء مصالحها، ورأيي هو أن الدول أو الجماعات التي تريد الفوز في عالمنا المتوحش بإمكانها أن تعمل لتلتقي مصالحها مع مصالح الإمبراطورية الأميركية وإلا فإن عداء الدولة الأكثر نفوذاً في العالم سيكلف المعادين الكثير خاصة في ظل سوء نوعية القوى الموازية لأميركا في العالم كروسيا والصين وهم ديكتاتوريات تريد تصدير الموت والجهل لشعوبنا.
 
أستاذي يعتقد بأن أميركا مجرمة ومسؤولة عن جرائم حرب حول العالم ومن حق بشار الأسد أن يسألها عن جرائمها إذا قررت محاسبته على جرائمه، الحل بنظر شريحة كبرى من المجتمع الأميركي هو في ترك سوريا لبوتين وميليشيات إيران حتى لو نكلوا بأهلها ورسموا سوريا جديدة على هوى إيران..
 
الهم الوحيد لهؤلاء هو عدم انغماس أميركا بحرب جديدة تضيف إلى رصيد أميركا المزيد من الجرائم، لكن يبقى السؤال دون إجابة: إذا غاب العرب عن عون السوريين وغابت أميركا عن وقف مجازر روسيا بحقهم، على ماذا نعقد الأمل؟ وهل تقدر فصائل المقاومة السورية على تحرير سوريا لوحدها مع استمرار توافد المزيد من ميليشيات إيران وسلاح روسيا إلى سوريا؟ أم نحن حتماً بحاجة للمزيد من العمل السياسي لإقناع دول العالم النافذة بدعم قضيتنا؟

مشروع محاربة الالحاد

"محاربة الإلحاد".. المشروع الفاشل

قبل ساعة
قبل فترة شاهدتُ فيلما وثائقيّا عنوانُه "Exodus: Patterns of Evidence" وموضوعُه هو 

روج بني إسرائيل من مصر، هذا الخروج الذي تذكرُه الكتبُ السّماويّة بكثير من التفاصيل، لكن يُصرّ الرأي السائد لدى علماء الحفريّات والمصريّات القديمة على أنّه لا دليلَ تاريخيّا عليه.

يُجري معدّ الفيلم مقابلات مع علماء من جنسيّات مختلفة ويحملون آراء مختلفة، بعضهُم يُصرّ بالفعل على أنّه ما من دليل على قصّة الخروج برمّتِها، وبعضُهم يذكرُ بعضَ الأدلّة بحذر، وبعضهم يُصرّ على أنّ الأدلة موجودة بل قويّة جدّا ولكنّ العلماء يتجاهلونَها؛ لأنهم يبحثون في أمكنة وأزمنة خاطئة بسبب انحيازات مسبَقة، بل يصلُ الأمر ببعضِهم إلى اعتبار أن تقسيمَ حقب التاريخ المصريّ القديم برمّته خاطئ ويحتاجُ تعديلاتٍ جوهريّة لكي يتمكّن العلماء من وضع أدلّة الخروج التاريخيّة في سياق صحيح. الفيلم رحلة تاريخيّة مُثيرة وأنصح بمشاهدته، لكنّ ما يهمّني هُنا ليس ثبوت قصّة الخروج من عدمِه.

كثير من القضايا التي تدورُ حولَها نِقاشات الإيمان والإلحاد ليست "شُبُهات"، بل معضلات إنسانيّة عميقة، بعضُها يحتاج جهدا وبحثا قد يمتدّ لعقودٍ أو قرون ليمكنَ البتّ فيه.
ما لفتَ نظري هو عظمة الجهد البحثيّ الذي بذله علماء الحفريّات والمصريّات عبر عقود متطاولة لاكتشاف التاريخ المصريّ القديم وما ارتبطَ به من تواريخ شعوب المنطقة. مساحات هائلة من الأرض تُحفَر، وآثار تُعامَل بمنتهى الدقّة والحرص بحثا عن دليل، ومخطّطات هندسيّة توضَع للمدن والبيوت، ورسوماتٌ توضيحيّة، ومقارنة مُضنيَة بما سبق اكتشافُه في المنطقة لوضعِه في سياقه، ومؤلّفات ضخمة تشرح وتوضّح بالكلام والرسوم والمقارنات. لم يحصل هذا في مساحات شاسعة من مصر فحسب، بل حصل كذلك في المدن الفلسطينيّة التي ارتبطت بها قصّة الخروج، من أريحا إلى بيسان. جهود مضنية وسنوات طويلة وأموال طائلة، مشروعٌ ضخم لاستنطاق التاريخ يحتاجُ هو بذاتِه إلى تأريخ وتخليد.

لدى بعض مُحاربي الإلحاد، إنكار قصّة خروج بني إسرائيل من مصر هو "شُبهة" يجبُ ردُّها، وقبلَ الحديث عن اختلال هذا التصوّر، يجبُ التوقّف أولا مع هذه الكلمة. "شبهة" لفظة توحي بأنّ تبنيّ موقفٍ مُخالفٍ ناتجٌ عن اشتباه، أي عن مجرّد اختلاطٍ أدّى إلى أن "يشتبِه" الأمرُ عليك. هذا يُمكن أن ينطبقَ على قضايا محدودة، لكنّ كثيرا من القضايا التي تدورُ حولَها نِقاشات الإيمان والإلحاد ليست "شُبُهات"، بل معضلات إنسانيّة عميقة، بعضُها يحتاج جهدا وبحثا قد يمتدّ لعقودٍ أو قرون ليمكنَ البتّ فيه، وبعضُها لا نمتلك كبشرٍ حتّى الآن الأدواتِ التي تمكنّنا من البتّ فيه، وبعضُها يُمكنُ أن ينتهي الوجود الإنسانيّ برمّتِه قبل أن نتمكّن من البتّ فيه.

وما سبقَ ينطبقُ على القضايا التي يحتاجُ البتُّ فيها إلى أدوات أفضل أو تقنية أكثر تطوّرا أو حفريّات لم تكتشَف أو معلوماتٍ لم تظهر، لكنّ بعض قضايا الإيمان والإلحاد ليست كذلك أصلا، بل هي قضايا أخلاقيّة وفلسفيّة يتّخذُ المرءُ منها موقفا وجوديّا حرّا، وليست مرتبِطة ببحثِ علميّ وليست موضوعا علميّا أصلا، مثل سؤال الشرّ، وسؤال قدرة الإنسان على تحديد الأحكام الأخلاقيّة من دون دين أو وحي. هذه كلّها ليست شبُهات، بل اختيارات إنسانيّة عميقة، تترتّب على اتّخاذِ أي موقف منها نتائجُ عميقة وبالغة الخطورة والأثر، هي اختياراتٌ وجوديّة بكلّ ما يمكنُ للكلمة أن تحملَ من معنى.

إذن، ما يبدو للبعضِ شبهة، مثل قصّة خروج بني إسرائيل، هو في الحقيقة سؤالٌ ضخمٌ تتضافرُ عدّة علوم من أجل البدء في جوابِه، ويجب أن تُبذَل جهودٌ هائلة وأموالٌ طائلة وعقولٌ متميّزة من أجل اكتشاف غوامضِه وامتلاك مفاتيح الجواب فحسب، فضلا عن الترجيح أو الحسم الذي قد لا يأتي. يكاد الأمر نفسُه ينطبقُ على سائر الأسئلة الضّخمة التي يدورُ حولَها نقاشُ الإيمان والإلحاد، مثل أصل الكون ونشأة الحياة واختلاف الكائنات وتشكّل الحسّ الأخلاقي وكيفيّة عمل الدّماغ وقصص الأنبياء السابقين وتاريخ روايات الكتب السماويّة والأحياء الدقيقة والجينات وغيرِها. اختر أيّ سؤالٍ من هذه الأسئلة، وستجدُ أنّه أصبح بالفعل مرتبطا بمجموعة علوم لا علم واحد - وبعضُها مرتبطٌ بتكنولوجيا شديدة التطوّر والتعقيد وباهظة التكلفة- وأُلّفت فيه كُتبُ مطوّلة، وكُتِبت فيه أبحاثٌ لا تُحصى، وتتخصّص فيه مجلّات علمية يحتاج تعدادها فهرسة، وانقطعَ له باحثون لا حصرَ لهم ويصعبُ حتى فهمُ تخصّصهم الدقيق ولو إجمالا. لم يعد ممكِنا اليوم لشخصٍ يحترم نفسَه أن يقولَ رأيا في هذه القضايا إلا بعد جهود علميّة مضنية.

بل إنّ أكثر جهودِ محاربة الإلحاد تستندُ في الحقيقة إلى جهودِ العلماء الذين أنتجتهم هذه المنظومة، فلا يمكنُ لمحاربي الإلحاد أن ينقدوا بعضَ نظريّات نشأة الحياة أو الكون أو غيرِها من هذه الموضوعات من دون الإشارة إلى بحث غربيّ تتعارضُ نتائجُه مع الموقف الإلحاديّ، أو عالم غربيّ يتبنّى موقِفا مناهِضا للنظريّات المتّسقة مع الإلحاد. هذا أمر لا مشكلةَ فيه، فالبيولوجيّ الملحد يستخدمُ نتائج الفيزيائيّ الملحد حتّى ولو لم يكن هو نفسُه متخصًصا في الفيزياء، لكنّ المهمّ هو أنّ هناك منظومة ضخمة لإنتاج المعرفة وتطويرِها ونشرِها وتبادلِها وتعظيمِها، وهي منظومة عظيمة التأثير وشديدة الكفاءة، ولا يُمكن مُضاهاتُها ومقاومة أثرِ انحيازاتِها بمجرّد استخدام بعضِ منتجاتِها.

ليس ما أدعو له هو التوقّف عن مناقشة الإلحاد، بل التحوّل إلى منتجين للمعرفة بدل الاكتفاء بكونِنا مطبّقين تقنيّين لها أو محاولين لتكييفِها فلسفيّا بما ينزعُ عنها ما نراه مخالفا للدّين أو مُشجِّعا على الإلحاد.
لكنّ هذه الاستعانة الجزئيّة ببعض منتَجات المنظومة المعرفيّة الغربيّة، حتّى وإن كانت مفيدة في مشروع محاربة الإلحاد على المدى القصير أو في بعض الحالات، إلا أنّها تؤدّي باطّراد إلى خلاف الغرض منها، فالمُتابع لا يُمكن له إلا أن يتعرّض لسائر الآراء التي تنتجُها المنظومة، بما فيها الآراء المنسجمة مع الإلحاد أو المنادية به بصراحة. يُضاف لذلك أنّ هذه المنظومة تقومُ أساسا بإنتاج المعرفة، وفي الإنسان شغفٌ دائمٌ إلى المعرفة وما يرتبطُ بها من نفعٍ بشريّ أو امتلاكٍ للقوّة أو تجاوبٍ مع رغبة الإنسان الفطريّة في أن يوسّع من دائرة علمه، من سؤال نشأة الكون إلى نشأة الإنسان إلى مجاهل المجرّات إلى غوامض العقل البشريّ، وبالتّالي فهذه المنظومة مغرية لأسباب كثيرة، والانبهار بها أمرٌ فطريّ بل هو المتوقّع من إنسان سويّ لأنّها تتجاوبُ مع طموحات الإنسان في امتلاك المعرفة وحيازة القدرة وإطالة العمر وإدامة الصّحة وتكثير الرزق.

وفي ضوء ذلك، ليس مستغرَبا أن ينتقل إعجاب المرء بما هو علميّ في هذه المنظومة إلى إعجاب بما ليس علميّا بالضرورة فيها، من قبيل النظريات حمّالة الأوجه والاستنتاجات المتأثّرة بالموقف الفلسفيّ المسبَق والتطبيقات الاجتماعيّة للمعرفة المتأثّرة حتما بكلّ مجتمَع، فضلا عن أنّ جزءا ضخما من المعرفة التي تنتجُها هذه المنظومة ينطلقُ من افتراضات فلسفيّة ووضعيّات اجتماعيّة ومنطلَقات نفسيّة ليست بحدّ ذاتِها مسلّمات علمية، بل اختيارات حرّة أو أوضاعا اعتباطيّة أو مجرّد ظرفيّات متأثّرة بشدّة بطبيعة المجتمع/ات التي تًنتِج المعرفة. بل يتعدّى الأمرُ ذلك إلى إعجاب عامّ بالمجتمعات التي تُنتِج هذه المعرفة، سواء بما هو عاديّ ومُحايدٌ فيها، أو حتّى بما هو سلبيّ وسيّءٌ وضارّ فيها.

تبعا لسائر ما سبق، ليس ما أدعو له هو التوقّف عن مناقشة الإلحاد، ولا التقليل من جهود أو حسن نيّة من يؤمن بهذا المشروع، بل ما أدعو له هو التحوّل إلى منتجين للمعرفة بدل الاكتفاء بكونِنا مطبّقين تقنيّين لها أو محاولين لتكييفِها فلسفيّا بما ينزعُ عنها ما نراه مخالفا للدّين أو مُشجِّعا على الإلحاد. هذا مشروع ضخم سيكون من المجازفة الشديدة حتى أن أبدأ الحديث عن تصوّر له، حيث تتداخلُ فيه اختيارات الأفراد بمشاريع الدّول، والاقتصاد بالسيّاسة، والموقف الفلسفيّ من العلم بظروف مجتمعاتِنا بالغة السّوء.

لكن إذا كان على كلّ إنسان أن يفعلَ ما بوسعِه، فما بوسعي هو قولُ كلمة قد تُغيّرُ تفكير شخصَ واحد تجاه هذه القضيّة، وهذا نجاحٌ كافٍ. إذا قرّر شخصٌ واحدٌ ممن يحاولون محاربة الإلحاد أن يُصبح بيولوجيّا مقتدِرا، أو طبيبَ نفسٍ مطّلعا، أو فيزيائيّا مدقٌقا، أو أنثروبولوجيّا واعيا، أو عالمَ أعصاب فذّا، وإذا تكاثر هؤلاء وأمثالُهم وأصبحوا منتجي معرفة، وإذا تحوّل الدارسون المتناثرون إلى تجمّعات علمية حقيقيّة، واستطاعوا امتلاك رؤية نقديّة تؤهّلهُم لتمييز الحقائق من الأطر الفلسفيّة والمقدّمات النفسيّة والظروف الاجتماعيّة، واستطاعوا المزج بين إنتاج المعرفة ونقدِها، وتمكّنوا من توسيع الدائرة الممكنة من الافتراضات المسبَقة والتأويلات المحتمَلة والاستنتاجات الواردة، وإذا بدأ ذلكَ كلّه ينعكُس على الوعي العامّ بأنّ المعارف والعلوم ليست كلّها حقائق بل فيها تعسّفات وتحكّمات واستنتاجات متأثّرة بشدّة بشخص الباحث وظروفه وتمويله ورؤيتِه الفلسفيّة، فسيكون تغييرٌ حقيقيّ قد بدأ، وسيكون هذا أفضلَ للإيمان وللإنسان.

لستُ غافلا أبدا عن ما يحتاجُه مشروع كهذا من نظم سياسيّة رشيدة، ومؤسّسات أكاديميّة رساليّة، وحريّة رأي تسمح بتعدّد المواقف، ورأسمال حرّ وشجاع يستثمرُ في المعرفة والعلم، وهذا كلّه للأسف في أسوأ حالاتِه في سياقنا العربيّ. لكنّ هذا لا يُعفينا من مهمّة البحث المتواصل عن فهم أفضل للقضايا، وتطويرٍ موقف أوعى بها، وتوسيع دائرة النّقاش فيها، وتقليبِها على أوجهها الممكنة.