رأيك في المدونات ؟

الثلاثاء، 28 مارس 2017

تقرير مصور

"مقهى الهموز" حنين وذكريات من الزمن القديم



كتبت: الاء محمود, بنان اعمير, روز بشارة

إن رغبت يوماً بزيارة نابلس فلا بد أن يصطحبك أحدهم إلى أبرز المعالم الشعبية والتراثية في المدينة وفي زحام الشوارع والطرقات سيجذبك جمال ما لم تألفه عينك من طبيعة خلابة وأشجار تلونت بأزهار من شتى الأنواع, أما أناسها فلا شك بأن علامة تعجب ودهشة سترتسم على وجهك حينما يشعرونك بأنك أحد سكان المدينة ولست غريباً أو زائراً, وإن كنت تنوي خوض تجربة العيش والجلوس في أقدم الأماكن وأكثرها هدوءاً وراحة فلا بد أن يكون مقهى الهموز وجهتك الأولى ولعلك تتكاسل عن البحث عن وجهة أخرى من فرط الجمال الذي يسلب القلوب والعقول فمجرد وصولك إلى شارع "شويتره" سيلفت انتباهك قدم ملامح المقهى فالحجارة التي تصطف الواحدة منها بمحاذاة الأخرى تتخللها بعض النباتات الطبيعية التي زادت من جمال المكان, ولعل الإشارات العثمانية المنقوشة على بعض الحجارة تخفي ألف حكاية عن تاريخنا القديم.


كل ذلك يجعلك تسبح في فضاءٍ من تفكير عميق وتأمل في روعة المكان ليوقظك من غفلتك صوت أحد الأشخاص الذي يبدو عليه كبر السن وهو يحدث صديقاً- على ما يبدو- عن ذكرياته هنا, تستأذن بالجلوس وتستمع, لتكتشف أنه من رواد المقهى القدامى, الحاج أبو إسماعيل (95 عاماً) يتحدث بشغف وحب عن التاريخ العريق للمكان وكأنه بيته الثاني: "هذا المكان أكثر الأماكن قرباً لقلبي فقد كنا نجتمع هنا في كل ليلة أنا وأصدقائي وأبناءنا وفي الحقيقة لا أملّ أبداً من تكرار قصة المقهى لكل من يسألني, تأسس المقهى سنة 1892, أي في عهد العثمانيين لكنه طبعاً كان بسيط للغاية كما قالوا لنا, فالجد الهموز عمل بجدّ حتى تمكن من توسيع المكان, بدأ ب أربع محلات وتحول لبركس مساحته أربع دونمات ثم هو اليوم بشكله الحالي, قديماً كان الجميع يأتي هنا في كل الأوقات حتى فجراً, يشربون الشاي أو القهوة ثم ينطلقون إلى أعمالهم".


يسهب الحاج أبو إسماعيل بالحديث عن عراقة المكان وصموده أمام ما واجهه من تحديات عظيمة, فليس من السهل على أي مكان البقاء لأكثر من 120 سنة والمحافظة على ما فيه من أصالة: "المقهى عبر الأجيال والعصور المختلفة عانى الكثير لكن بفضل الله وبسبب حب الناس له ما زال قائماً إلى الآن فهو في فترة الانتداب البريطاني أغلق عدة مرات بتهمة التحريض, وتحول فيما بعد لثكنة عسكرية للجنود البريطانيين ثم بعد ذلك استخدم المقهى كمنبر للدعايات الانتخابية الأردنية وبعد الاحتلال الاسرائيلي تم إيواء العديد من المطاردين والمطلوبين فيه وكان يتم حشد الشباب بداخله وتوعيتهم لمخاطر المرحلة ثم بعد قدوم السلطة استغل المقهى للتعليم المدرسي والجامعي خاصة في فترات الانتفاضة ومنع التجول وإغلاق المؤسسات التعليمية".


وكزائر وما إن تسمع هذه الحكاية حتى يدفعك الفضول لمعرفة المزيد عن مكانٍ كهذا خاصة وأن ملامح المكان ما زالت محافظة على ما كانت عليه, تتأمل في الزوايا كلها لتجذبك زاوية أشبه بالفارغة إلا من رجل عرفت فيما بعد أنه صاحب المقهى الحالي والذي ورثه عن جده وأبيه, بإبتسامته التي لم تفارق وجهه والتي لا تنّمُ إلا عن الفخر والاعتزاز يخبرنا "أيمن الهموز" عن الحفلات الغنائية التي أقيمت هنا: "لا أبالغ إن قلت أن معظم عمالقة الغناء العربي غنوا بداخله, فمسرح المقهى كان يعج بالمغنين العرب, أمثال أم كلثوم التي كانت أول من اعتلى المسرح وغنت أغنية "يا بدر اختفي", واستقبل المقهى أيضا عبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان, أما فيروز فلم يحالفنا الحظ بأن تدخل مقهانا فقامت بالغناء على أبواب المقهى".


وكما يرى الهموز في غناء الفنانات والفنانين بالمقهى أمراً يفتخر به ويرفع من قيمة المكان لا يمكنه تجاهل ما هو أكثر قيمةً من ذلك, ألا وهو تحول المقهى في فترة من الفترات إلى مبنى للتعليم سواء أكان الجامعي أو المدرسي ما يدّعم أقوال الحاج أبو إسماعيل, فالهموز وهو ابن جامعة النجاح لا يكف عن الحديث عن استمرار الدوام الجامعي اليومي في فترة الانتفاضة حيث كانت الهيئة التدريسية تعقد الدوام وحتى الامتحانات حرصاً من أبناء الوطن طلاباً وأساتذة ومجتمع بأكمله على استمرار التعليم رغم كل المعيقات فهو السلاح الأول الذي يمكننا من التغلب على أي عدو وهو ما لا يختلف عليه اثنين.


وعند تجوّلك في أنحاء المقهى في الداخل والخارج  تستشعر راحة نفسية لا مثيل لها, وكأنها رذاذ منتشر في الجو ينشر عبقه على كل زائر, فيدفعك ذلك إلى اكتشاف المزيد بقوة تعجز عن تفسيرها, أهي الفطرة الطبيعية لحب الجمال؟ أم السكينة والهدوء الملفتان للنظر؟ أم أنها الأصالة والقدم اللذين يشعرانك بأنك ابن المكان؟! تتأمل تفاصيل المقهى المليئة بذكريات الماضي, الصور ذات الألوان الرمادية, الكراسي الخشبية العتيقة, بل أيضاً أداوت إعداد المشروبات الساخنة التي لم تعتقد يوماً بوجودها إلى الآن, النباتات العشبية المزروعة في كل زوايا المقهى, ودالية العنب التي تعود لأكثر من 100 عام, جمال وأصالة عربية كهذه لم تلفت نظر السكان المحليين فقط بل كانت عامل جذبٍ للعديد ممن يسكنون القرى والمدن المجاورة حتى وصل الأمر إلى تعلق بعض السياح الأجانب بالمكان وزيارته بشكل يومي سواء أكان ذلك للدراسة أو التسامر أو حتى للتفكر والتأمل.


السائحة الهولندية آنّـا والتي تدرس في جامعة النجاح تخبرنا عن زياراتها الدائمة للمقهى وحبها له الذي لا تجد له تفسيراً فهو برأيها مختلف عن كافة المقاهي والأماكن التي زارتها هنا وفي هولندا, تتحدث آنّـا وعلامات التعجب والدهشة يعتريان وجهها: "لا أعلم حقاً ما السر في هذا المكان, كل ما فيه جميل ومرتب وتشعر كأنك في أحد الأفلام, أحب الجلوس هنا بعد الدوام والاستمتاع بأصوات الطبيعة, هذا الهدوء يساعدني على الدراسة والتركيز غير أن القائمين على المقهى لطيفين للغاية ومشروباتهم لذيذة فعلاً, في كل أحاديثي لأصدقائي العرب والأجانب لا أتوقف عن الحديث عن هذا المكان وأدعوهم دوماً لمشاركتي في الجلوس والأحاديث هنا".


مكان كهذا بذكريات الماضي الطويلة التي لا تنسى تركت أثراً عميقاً في نفوس الجيل القديم ممن اعتادوا على زيارة المقهى مع أصدقائهم فها هو السيد محمد الوزني -65 عاماً-  بالرغم من اغترابه وإقامته في كندا ومع كل ما شاهده من تطور وتقدم في الخارج إلا أنه لم يرَ مكاناً يزيح عنه تعب الدنيا وينسيه همومها سوى مقهى الهموز, يتذكر الماضي ويقول: "كنا نأتي أنا وإخوتي وأصدقائي هنا في كل جمعة من بعد المغرب لنتسامر ونتحدث ونتناقش في أمور الوطن والتجارة, أخذتنا الدنيا بهمومها وتفرقنا ولم نعد نجتمع كثيراً إلا أننا وعند عودتنا إلى الوطن نعود مجدداً للاجتماع هنا فهذا المكان يحمل ذكريات جميلة لكلٍ منا".



بالرغم من شهرة المقهى وزواره الكثيرون من مختلف الأعمار وحبهم وتعلقهم به إلا أن الأجداد وحدهم من يعرفون قيمته الحقيقية أكثر من غيرهم, ووجود المقهى لغاية اليوم ما هو إلا دليل واضح على حرص الأجيال الجديدة على الحفاظ على كل ما يذكرهم بالماضي وإحياء روح الأصالة والعراقة فما يميز أفراد شعبنا هو عدم انسلاخهم من ثوبهم واعتزازهم بكل ما يؤكد أحقيتنا في هذه الأرض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق